فصل: تفسير الآيات (24- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{عبس وتولى أَن جاءه الأعمى}
رُويَ أنَّ ابنَ أمِّ مكتومٍ واسمُه عبدُ اللَّه بنُ شُريحِ بنِ مالكِ بنِ أبي ربيعةَ الفهريُّ وأمُّ مكتومٍ اسمُ أبيهِ أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعندَهُ صناديدُ قريشٍ عتبةُ وشيبةُ ابنا ربيعةَ وأبُو جهل بنُ هشامٍ والعباسُ بنُ عبدِ المطلبِ وأميةُ بنُ خلفٍ والوليدُ بنُ المغيرةِ يدعُوهم إلى الإسلامِ رجاءَ أنْ يسلمَ بإسلامِهم غيرُهم فقال له: يا رسولَ الله أقرئنِي وعلمنِي مما علمكَ الله تعالى، وكررَ ذلكَ وهو لا يعلمُ تشاغلَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ بالقوم فكرِه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قطعَهُ لكلامِه وعبس وأعرضَ عنه فنزلتْ. فكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكرمُه ويقول إذا رآه: «مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول لهُ: «هل لك من حاجة» واستخلفَهُ على المدينة مرتينِ وقرئ {عبس} بالتشديدِ للمبالغةِ و{أنْ جاءه} علةٌ لـ: {تولى} أو {عبس} على اختلافِ الرأيينِ أيْ لأَنْ {جاءه الأعمى} والتعرضُ لعنوانِ عماهُ إمَّا لتمهيدِ عُذرِه في الإقدامِ على قطعِ كلامِه عليه الصلاةُ والسلامُ بالقومِ والإيذانِ باستحقاقِه بالرفقِ والرأفةِ وإمَّا لزيادةِ الإنكارِ كأنَّه قيلَ: تولى لكونِه أَعْمى كما أنَّ الالتفاتَ في قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ} لذلكَ فإنَّ المشافهةَ أدخلُ في تشديدِ العتابِ أيْ وأيُّ شيءٍ يجعلُكَ دارياً بحالِه حتى تُعرضَ عنْهُ وقوله تعالى: {لعله يزكى} استئنافٌ واردٌ لبيانِ ما يلوحُ به ما قبلَه فإنه معَ إشعارِه بأنَّ له شأناً منافياً للإعراضِ عنه خارجاً عن درايةِ الغيرِ وادرائِه مؤذنٌ بأنه تعالى يُدريه ذلكَ أي لعله يتطهرُ بما يقتبسُ منكَ من أوضارِ الأوزارِ بالكليةِ وكلمةُ لعلَّ مع تحققِ التزكِّي واردةٌ على سَننِ الكبرياءِ أو على اعتبارِ مَعْنى الترجِّي بالنسبةِ إليه عليه الصلاةُ والسلامُ للتنبيه على أن الإعراضَ عنه عند كونِه مرجوَّ التزكِّي مما لا يجوزُ فكيفَ إذا كان مقطوعاً بالتزكِّي كما في قولك: لعلَّك ستندمُ على ما فعلتَ وفيه إشارةٌ إلى أنَّ من تصدى لتزكيتهم من الكفرة لا يُرجى منهم التزكِّي والتذكُّرِ أصلاً.
وقوله تعالى: {أَوْ يذكر} عطف على {يزكَّى} داخلٌ معه في حكم الترجِّي. وقوله تعالى: {فتنفعه الذكرى} بالنصب على جواب لعلَّ وقرئ بالرفع عطفاً على {يذكر} أي أو يتذكرُ فتنفعه موعظتُك إنْ لم يبلغْ درجةَ التزكِّي التامِّ، وقيلَ: الضمير في {لعله} للكافر فالمَعْنى أنك طمعتَ في أنْ يتزكى أو يذكر فتقربُه الذكرَى إلى قبولِ الحقِّ ولذلكَ توليتَ عن الأَعْمى وما يُدريكَ أن ذلكَ مرجُّوُ الوقوعِ {أَمَّا مَنِ استغنى} أي عن الإيمان وعما عندك من العلوم والمعارفِ التي ينطوي عليها القرآن {فَأَنتَ لَهُ تصدى} أي تتصدى وتتعرضُ بالإقبالِ عليهِ والاهتمامِ بإرشادِه واستصلاحِه وفيه مزيدُ تنفيرٍ له عليه الصلاةُ والسلامُ عن مصاحبتِهم فإن الإقبالَ على المُدبرِ ليسَ من شيمِ الكبارِ وقرئ {تصدى} بإدغام التاءِ في الصَّادِ وقرئ {تصدى} بضمِّ التاءِ أيْ تُعرضُ ومعناهُ يدعوكَ إلى التصدِّي له داعٍ من الحرص والتهالكُ على إسلامِه {وَمَا عَلَيْكَ ألاَّ يزكى} وليسَ عليكَ بأسٌ في أنْ لا يتزكى بالإسلام حتَّى تهتمَّ بأمره وتعرضَ عمَّن أسلمَ والجملة حال من ضمير {تصدى} وقيل: ما استفهامية للإنكار أيْ أيُّ شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله النفيُ أيضاً.
{وَأَمَّا مَن جَاءكَ يسعى} أيْ حالَ كونِه مسرعاً طالباً لما عندكَ من أحكام الرشدِ وخصالِ الخيرِ {وَهُوَ يخشى} أي الله تعالى وقيلَ: يخشَى أذيةَ الكفارِ في إتيانِك وقيلَ: يخشى الكبوةَ إذ لم يكن معهُ قائدٌ والجملة حالٌ من فاعلِ {يسعَى} كمَ أنه حالٌ من فاعل {جاءك} {فَأَنتَ عَنْهُ تلهى} تتشاغلُ يقال: لَهَى عنه والتهِى وتَلهَّى. وقرئ {تتلهى} وتلهى أي يُلهيك شأنُ الصناديدِ، وفي تقديم ضميره عليه الصلاةُ والسلامُ على الفعلينِ تنبيهٌ على أنَّ مناطَ الإنكارِ خصوصيتُه عليه الصلاةُ والسلامُ أي مثلُك خصوصاً لا ينبغِي أن يتصدى للمستغنِي ويتلهَّى الفقيرَ الطالبَ للخيرِ وتقديمُ لَه وعنْهُ للتعريض باهتمامه عليه الصلاةُ والسلامُ بمضمونهما، رُويَ أنه عليه الصلاةُ والسلامُ ما عبس بعد ذلكَ في وجهِ فقيرٍ قط ولا تصدى لغنى {كَلاَّ} ردعٌ له عليه الصلاةُ والسلامُ عمَّا عُوتبَ عليهِ من التصدِّي لمن استغنَى عما دعاهُ إليهِ من الإيمانِ والطاعةِ وما يوجبهُما من القرآن الكريمِ مبالغاً في الاهتمامِ بأمرِه على إسلامِه معرضاً بسببِ ذلكَ عن إرشادِ من يسترشدُه وقوله تعالى: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي موعظةٌ يجبُ أن يتعظَ بها ويعملَ بموجبِها تعليلٌ للردعِ عما ذُكِرَ ببيانِ علوِّ رتبةِ القرآن العظيمِ الذي استغنى عنه من تصدى عليه الصلاةُ والسلامُ لهُ وتحقيقُ أنَّ شأنَهُ يكونُ موعظةً حقيقةً بالاتعاظِ بها فمن رغبَ فيها اتَّعظَ بها كما نطقَ به قوله تعالى: {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} أي حفظَهُ واتَّعظَ بهِ ومن رغبَ عنهَا كما فعلَ المستغنيُّ فلا حاجةَ إلى الاهتمامِ بأمرِه فالضميرانِ للقرآن وتأنيثُ الأولُ لتأنيثِ خبرِه وقيلَ: الأولُ للسورةِ أو للآياتِ السابقةِ والثانِي للتذكرةِ والتذكيرِ لأنها في مَعْنى الذكرِ والوعظِ وليسَ بذلكَ فإن السورةَ والآياتِ وإن كانتْ متصفةً بما سيأتِي من الصفاتِ الشريفةِ لكنها ليستْ مما أُلقي على من استغنى عنه واستحقَ بسببِ ذلكَ ما سيأتِي من الدعاءِ عليهِ والتعجبِ من كفرِه المفرطِ لنزولِها بعد الحادثةِ وأما من جوَّز رجوعَهما إلى العتابِ المذكورِ فقد أخطأَ وأساءَ الأدبَ وخبطَ خبطاً يقضي منه العجبُ فتأمل وكُن على الحقِّ المبينِ.
وقوله تعالى: {فَى صُحُفٍ} متعلق بمضمرٍ هُو صفةٌ لـ: {تذكرةٌ} وما بينهما اعتراضٌ جِيء بهِ للترغيبِ فيها والحثِّ على حفظِها أي كائنةٌ في صحفٍ منتسخةٍ من اللوحِ أو خبرٌ ثانٍ لأنَّ {مُّكَرَّمَةٍ} عندَ الله عزَّ وجلَّ {مَّرْفُوعَةٍ} أي في السماءِ السابعةِ، أو مرفوعةِ المقدارِ والذكرِ {مُّطَهَّرَةٍ} منزهةٍ عن مساسِ أيدِي الشياطينِ.
{بِأَيْدِى سَفَرَةٍ} أي كتبةٍ من الملائكةِ ينتسخونَ الكتبَ من اللوحِ على أنه جمعُ سافرٍ من السفرِ وهو الكتبِ وقيل: بأيدِي رسلٍ من الملائكةِ يسفرونَ بالوحْي بينَهُ تعالى وبين الأنبياءِ على أنه جمعُ سفيرٍ من السفارةِ وحملُهم على الأنبياءِ عليهم السلامُ بعيدٌ فإن وظيفتَهم التلقِّي من الوَحْي لا الكتبُ منه وإرشادُ الأمةِ بالأمرِ والنَّهي وتعليمُ الشرائعِ والأحكامِ لا مجردُ السفارةِ إليهم وكذَا حملُهم على القراء لقراءتهم الأسفارَ أو على أصحابِه عليه الصلاةُ والسلامُ وقد قالوا: هذه اللفظةُ مختصةٌ بالملائكةِ لا تكادُ تطلقُ على غيرِهم وإن جازَ الإطلاقُ بحسبِ اللغةِ والباءُ متعلقةٌ بـ: {مطهرةٍ}.
قال القَفَّالُ: لما لم يمسَّها إلا الملائكةُ المطهرونَ أضيفَ التطهيرُ إليها لطهارة من يمسُّها، وقال القرطبيُّ: إن المرادَ بما في قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} هؤلاء السفرةُ الكرامُ البررةُ.
{كِرَامٍ} عند الله عزَّ وجلَّ أو متعطفينَ على المؤمنينَ يكملونُهم ويستغفرونَ لهم {بَرَرَةٍ} أتقياءَ وقيل: مطيعينَ لله تعالى، من قولهم: فلانٌ يبرُّ خالقَهُ أي يطيعُه وقيل: صادقينَ من برَّ في يمينه {قُتِلَ الإنسان} دعاءٌ عليه بأشنعِ الدعواتِ وقوله تعالى: {مَا أَكْفَرَهُ} تعجبٌ من إفراطه في الكفران وبيانٌ لاستحقاقِه للدعاءِ عليه، والمرادُ به إمَّا من استغنَى عن القرآن الكريمِ الذي ذُكرتْ نعوتُه الجليلةُ الموجبةُ للإقبال عليه والإيمان به. وإما الجنسُ باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده لا باعتبار جميعِ أفرادِه، وفيه مع قصرِ متنه وتقاربِ قُطريه من الإنباءِ عن سخطٍ عظيمٍ ومذمةٍ بالغةٍ ما لا غايةَ وراءَهُ. وقوله تعالى: {مِنْ أَىّ شيء خَلَقَهُ} شروعٌ في بيانِ إفراطِه في الكفرانِ بتفصيلِ ما أفاضَ عليه من مبدأ فطرتِه إلى مُنْتهَى عمرِه من فُنونِ النعمِ الموجبةِ لقضاءِ حقِّها بالشكرِ والطاعةِ مع إخلالِه بذلكَ، وفي الاستفهامِ عن مبدأ خلقِه ثم بيانِه بقوله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ} تحقيرٌ له أيْ مِنْ أيِّ شيءٍ حَقيرٍ مهينٍ خلقَهُ من نطفةٍ مذرةٍ خلقَهُ {فَقَدَّرَهُ} فهيَّأهُ لما يصلحُ لهُ ويليقُ به من الأعضاءِ والأشكالِ أو فقدَّرَهُ أطْواراً إلى أنْ تمَّ خلقُه. وقوله تعالى: {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} منصوبٌ بمُضمرٍ يفسرُهُ الظاهرُ، أيْ ثم سهَّلَ مخرجَهُ من البطنِ بأَنْ فتحَ فمَ الرحمِ وألهمَهُ أنْ ينتكسَ، أو يسرَ له سبيلَ الخيرِ والشرِّ، ومكَّنهُ من السلوكِ فيهما. وتعريفُ السبيلِ باللامِ دونَ الإضافةِ للإشعارِ بعمومِه.
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي جعلَهُ ذَا قبرٍ يُوارَى فيه تكرمةً لهُ ولم يدعْهُ مطروحاً على وجهِ الأرضِ جَزَرَاً للسباعِ والطير كسائرِ الحيوانِ، يقال قبرَ الميتَ إذَا دفنَهُ وأقبرَهُ إذا أمرَ بدفنِه أو مكنَ منْهُ. وعَدُّ الإماتةِ من النعمِ لأنَّها وصلةٌ في الجملة إلى الحياةِ الأبديةِ والنعيمِ المقيمِ.
{ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} أيْ إذَا شاءَ إنشارَهُ أنشرَهُ على القاعدةِ المستمرةِ في حذفِ مفعولِ المشيئةِ، وفي تعليقِ الإنشارِ بمشيئتِه تعالى إيذانٌ بأنَّ وقتَهُ غيرُ متعينٍ بلْ هُو تابعٌ لهَا. وقرئ نَشَرهُ {كَلاَّ} ردعٌ للإنسان عمَّا هو عليه. وقوله تعالى: {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} بيانٌ لسبب الرَّدعِ أي لم يقضِ بعدُ من لدنِ آدمَ عليه السلام إلى هذه الغايةِ مع طولِ المَدَى وامتدادِه ما أمرَهُ الله تعالى بأسرِه إذْ لا يخلُو أحدٌ من تقصير ما كذا قالوا وهكَذا نُقلَ عن مجاهدٍ وقَتَادَةَ ولا ريبَ في أنَّ مساقَ الآياتِ الكريمةِ لبيانِ غايةِ عظيمِ جنايةِ الإنسانِ وتحقيقِ كُفرانِه المفرطِ المستوجب للسخطِ العظيمِ وظاهرٌ أنَّ ذلكَ لا يتحققُ بهذا القدرِ من نوعِ تقصيرٍ لا يخلُو عنْهُ أحدٌ من أفرادِه كيفَ لا وقَدْ قال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «شيبتنِي سورة هودٍ» لمَا فيهَا من قوله تعالى: {فاستقمْ كَما أُمرتَ}. فالوجُه أنْ يحملَ عدمُ القضاءِ على عمومِ النفي لا على نفي العمومِ إمَّا على أنَّ المحكومَ عليهِ هُو المستغني أو هو الجنسُ لكنْ لا على الإطلاقِ بَلْ على أنَّ مصداقَ الحكمِ بعدمِ القضاءِ بعضُ أفرادِه وقد أُسندَ إلى الكُلِّ كَما في قوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} للإشباعِ في اللومِ بحكمِ المجانسةِ على طريقةِ قولهم بنُو فلان قتلُوا فلاناً والقاتلُ واحدٌ منهم، وإمَّا على أنَّ مصداقَهُ الكلُّ من حيثُ هو كلٌّ بطريقِ رفعِ الإيجابِ الكليِّ دونَ السلبِ الكليِّ، فالمَعْنى لَمَّا يقضِ جميعُ أفرادِه ما أمرَهُ بل أخلَّ به بعضُها بالكفرِ والعصيانِ مع أنْ مُقتضَى ما فُصِّل من فنونِ النعماءِ الشاملةِ للكلِّ أنْ لا يتخلفَ عنه أحدٌ أصلاً. هذا وقد قيلَ كلاَّ بمَعْنى حقاً فيتعلقُ بما بعدَهُ أي حقَّاً لم يعملْ بِما أمرَهُ به. اهـ.

.تفسير الآيات (24- 32):

قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طعامه (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ردعه بعد تفصيل ما له في نفسه من الآيات، وأشار إلى ما له من النقائص، شرع يقيم الدليل على تقصيره بأنه لا يقدر على شكر نعمة المنعم فيما له من المطعم الذي به قوامه فكيف بغيرها في أسلوب دال على الإنشار بآيات الآفاق منبه على سائر النعم في مدة بقائه المستلزم لدوام احتياجه إلى ربه فقال مسبباً عن ذلك: {فلينظر الإنسان} أي يوقع النظر التام على كل شيء يقدر على النظر به من بصره وبصيرته ومدّ له المدى فقال: {إلى طعامه} يعني مطعومه وما يتصل به ملتفتاً إليه بكليته بالاعتبار بما فيه من العبر التي منها أنا لو لم نيسره له هلك.
ولما كان المقصود النظر إلى صنائع الله تعالى فيه.
وكانت أفعال الإنسان وأقواله في تكذيبه بالعبث أفعال من ينكر ذلك الصنع، قال سبحانه مفصلاً لما يشترك في علمه الخاص والعام من صنائعه في الطعام، مؤكداً تنبيهاً على أن التكذيب بالعبث يستلزم التكذيب بإبداع النبات وإعادته، وذلك في أسلوب مبين أن الإنسان محتاج إلى جميع ما في الوجود، ولو نقص منه شيء اختل أمره، وبدأ أولاً بالسماوي لأنه أشرف، وبالماء الذي هو حياة كل شيء، تنبيهاً له على ابتداء خلقه: {أنّا} أي على ما لنا من العظمة {صببنا الماء} أي الذي جعلنا منه كل شيء حي {صباً} وثنى بالأرض التي هي كالأنثى بالنسبة إلى السماء فقال: {ثم} أي بعد مهلة من إنزال الماء، وفاوتنا بينها في البلاد والنبات {شققنا} أي بما لنا من العظمة {الأرض} بالنبات الذي هو في غاية الضعف عن شق أصعب الأشياء فكيف بالأرض اليابسة المتكزرة جدًّا عند مخالطة الماء، وحقق المعنى فقال: {شقاً} ثم سبب عن الشق ما هو كالتفسير له مبيناً الاحتياج إلى النبات بقوله: {فأنبتنا} أي أطلعنا على وجه الاتصال الموجب للتغذي والنمو {فيها} بسبب الشق {حبًّا} أي لاقتيات الإنسان وغيره من الحيوان كالحنطة والشعير والرز وغيرها.
ولما كان الحب قوتاً فبدأ به لأنه الأصل في القوام، عطف عليه ما هو فاكهة وقوت فقال: {وعنباً} هو فاكهة في حال عنبيته وقوت باتخاذه زبيباً ودبساً وخلاً.
ولما كان لذلك في بيان عجائب الصنع ليدل على القدرة على كل شيء فيدل على القدرة على البعث فذكر ما إن أخذ من منبته قبل بلوغه فسد، وإن ترك اشتد وصلح للادخار، واتبعه ما إن ترك على أصله فسد، وإن أخذ وعولج- صلح للادخار، أتبعه ما لا يصلح للادخار بوجه فقال: {وقضباً} وهو الرطب من البقل وغيره، وهو يزيد على الماضيين بأنه فيه ما هو دواء نافع وسم ناقع، وبأنه يقطع مرة بعد أخرى فيخلف، سمي بمصدر قضبه- إذا قطعه بحصد أو قلع.
ولما ذكر ما لا يصلح أن يؤكل إلاّ رطباً من غير تأخير، أتبعه ما لا يفسد بحال لا على أمه ولا بعد القطاف ويصلح بعد القطاف فيؤكل أو يعصر، فيكون له دهن للاستصباح والإدهان والائتدام، وفيه تقوية للعظام والأعصاب ولا يفسده الماء بوجه كما أن العنب يعصر فيكون منه دبس وخل وغيرهما، ومتى خالطه الماء فسد، فقال: {وزيتوناً} يكون فيه مع ما مضى حرافة وغضاضة فيها إصلاح المزاج.
ولما ذكر ما لا يفسد وشجره يصبر على البرد، أتبعه ما هو كالعنب يؤكل على أمه ويقطع فيدخر، فهو جامع بين التحلي والتحمض بالخل والتفكه والتقوي والتداوي للسم الناقع والسحر الصارع من عجوة المدينة الشريفة وغير ذلك من ثمرة وشجرة، ولا يصبر شجره على البرد فقال: {ونخلاً} وكل من هذه الأشجار مخالف للآخر في الشكل والحمل وغير ذلك مع الموافقة في الأرض والسقي.
ولما ذكر هذه الأشياء من الأقوات والفواكه لكثرة منافعها، وكانت البساتين تجمعها وغيرها مع ما لها من بهجة العين وسرور النفس وبسط الخاطر وشرح القلب قال: {وحدائق} جمع حديقة وهي الروضة ذات النخل والشجر، أو كل ما أحاط به البناء وهي تجمع ذلك كله {غلباً} جمع غلباء- بفتح الغين والمد، وهي الحديقة ذات أشجار كثيرة عظام غلاظ طوال ملتفة الأغصان متكاثرة، مستعار من وصف الرقاب، يقال: غلب فلان- كفرح أي غلظ عنقه، والغلباء أيضاً من القبائل العزيزة الممتنعة، ومن الهضاب المشرفة.
ولما ذكر ما يتفكه ويدخر جمع فقال: {وفاكهة} أي ثمرة رطبة يتفكه بها كالخوخ والعنب والتين والتفاح والكمثرى والبرقوق مما يمكن أن يصلح فيدخر ومما لا يمكن.
ولما ذكر فاكهة الناس، ذكر فاكهة بقية الحيوان فقال: {وأبّاً} أي ومرعىً ونباتاً وعشباً وكلأ ما دام رطباً يقصد، من أب الشيء- إذا أمه.
ولما جمع ما يقتات وما يتفكه، فدل دلالة واضحة على تمام القدرة، ذكر بالنعمة فيه قارعاً بأسلوب الخطاب لتعميم الأفراد بعد سياق العتاب للتصريح بأن الكل عاجزون عن الوفاء بالشكر فكيف إذا انضم إليه الكفر فقال: {متاعاً} وهو منصوب على الحال.
ولما ذكر ما يأكله الناس وما يعلف للدواب، وكان السياق هنا لطعام الإنسان، قال مقدماً ضميرهم: {لكم ولأنعامكم} بخلاف ما في السجدة وقد مضى، والأنعام بها يكون تمام الصلاح للإنسان بما له فيها من النعم بالركوب والأكل والشرب والكسوة والجمال وسائر المنافع، وذكر هذا ذكراً ظاهراً مشيراً إلى المعادن لأن منها ما لا يتم ما مضى إلا به، وهي آلات الزرع والحصد والطبخ والعجن وغير ذلك، والملائكة المدبرة لما صرفها الله فيه من ذلك، فدل ذلك على أن الوجود كله خلق لأجل منافع الإنسان ليشكر لا ليكفر، ودلت القدرة على ذلك قطعاً على القدرة على البعث. اهـ.